حديثنا اليوم في علو الهمة وطلب العلم، تلكم الفريضة التي جعلتنا يوما نتصدر الركب وما أن تخلينا عنها وتهاونا فيها إلا ورجعنا في مؤخرته، بل لم نعد نعرف إلي أين سار الركب وإلي أين أنتهي.
تملأني الحسرة وأنا أشاهد ما كنا عليه من تقدم في شتي العلوم، وكيف وصل الحال بنا اليوم!، ليس من أهدافي هنا البكاء علي الأطلال، أو تقديم دروسا ومواعظ أتعالي بها عليكم، ولكني سآخذكم في جولة تعلو فيها الهمم وتشّد فيها العزائم لعلي وإياكم نعرف جيدا كيف هي قيمة العلم وأنه لا يفوز به إلا أصحاب الهمم العالية.
هذه بعض العبر في علو الهمة وطلب العلم
- لو قمنا بحساب ما ألفه الإمام السيوطي علي عدد سنوات عمره، لكان من المفترض عليه أن يؤلف كل يوم 20 صفحة.
- ألف ابن عقيل كتابه “الفنون” في فنون الإسلام من فقه وتوحيد وتاريخ وسير وتفسير، والكتاب يشتمل 800 مجلد، لا اظن اليوم أن هناك من لديه الهمة لقراءته وليس لتأليفه.
- قال الشافعي : حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين ، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين.
- قرأ ابن حجر السنن لابن ماجه في أربعة مجالس، وقرأ معجم الطبراني في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، وهذا الكتاب يشتمل على نحو 1500 حديث.
- قال البخاري : كتبت عن ألف شيخ ، وعن كل واحد منهم عشرة آلاف حديث وأكثر.
- عن ابن عباس قال : كنت آتي باب أبيّ بن كعب وهو نائم ، فأقيل على بابه.
- الإمام بن جرير الطبري يقول مكثت أربعون عاماً أؤلف في اليوم 40 صفحة، وفي يوم جمع تلامذته وقال لهم ما رأيكم في أن نكتب التاريخ، فقالوا في كم صفحة يا إمام؟، قال في ثلاثون ألف صفحة، فردوا هذا مما تفني فيه الأعمار، فقال إنا لله وإن اليه راجعون .. ضاعت الهمم، فأملي عليهم التاريخ في ثلاثة ألاف صفحة من ذاكرته، وبعدها أملي عليهم تفسير كتاب الله في ثلاثة ألاف صفحة.
- يقول أبو المظفر سبط ( حفيد ) الإمام ابن الجوزي رأيت جدي واقفا علي هذا المنبر وهو يقول والله لقد كتبت بأصبعي هاتين ألفي مجلد.
- من كثرة ما كتب الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام، سأل عن عدد مؤالفاته فأجاب لا أعرف، وكذلك تلامذته وأقاربه لم يكن هناك من يستطيع إحصاء مؤلفاته، ويقول الإمام ابن القيم تلميذه كان الشيخ ابن تيمية يؤلف في اليوم ما ينسخه الناسخ في أسبوع، ولما استغرب من حوله ذلك، قال الشيخ ” والله ماكنت أضع قلما ولا أرفعه إلا وأسبح بحمد ربي، فإن عضلت علي مسألة خرجت إلي مكان خرب بجوار بيتي وعفرت وجههي بالتراب وبكيت بين يدي الله وقلت ” يا معلم داوود علمني ويا مفهم سليمان فهمني” حتي يفتح الله علي المسألة فاعود فأكتبها.
- أخذ الإمام النووي _ رحمه الله _ عامين كاملين في بداية طلبه العلم يقول مانمت علي جنبي قط، فكان يقرأ حتي ينام مستندا بظهره علي الكتب، ولما يكمل ساعة في نومه يستيقظ ليكمل طلب العلم، وكان يفضل أن يأكل الخبز يابسا ومطحونا كالردة ويسفه بالماء، ولما سأل لم لا تأكله طريا يا إمام قال مابين مضغه وسفه قراءة خمسين آية في كتاب الله، ورحل الإمام النووي وهو في الأربعين من عمره، وقد ملأت كتبه الدنيا بأسرها، حتي أن كتابه رياض الصالحين أصبح أكثر الكتب انتشارا بعد كتاب الله عز وجل، وروي أن الإمام عند وفاته سأل لم لم تتزوج يا إمام فرد ” لو ذكرتموني لفعلت” .
هكذا كانوا فكان زمان العزة، وهكذا صرنا فأصبح زمان الهوان.
الآن وبعد قرائتك لهذه الروائع، هل ستسارع في ختم القرآن الكريم لأكثر من مرة قبل انتهاء رمضان، وهل ستسارع لإنجاز طابور الإنتظار من الكتب التي تنوي قراءتها، أم أنك لم تصاحب الكتب بعد، إذا كانت لا تحب القراءة والكتب فأنصحك بقراءة هذا النص للجاحظ يوصي فيه بالكتاب والمطالعة.
- فنعم الكاتب ونعم المقال وهو أفضل ما قرأت في كتاب لا تحزن للشيخ عائض القرني:
والكتاب هو الجليسُ الذي لا يُطرِيك ، والصديقُ الذي لا يُغرِيك ، والرفيقُ الذي لا يَمَلُّك ، والمستميحُ الذي لا يستريثك ، والجارُ الذي لا يستبطيك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملقِ ، ولا يعاملُك بالمكْر ، ولا يخدعُك بالنفاق ، ولا يحتالُ لك بالكذِبِ .
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوَّ بنانك ، وفخَّم ألفاظك ، وبحبح نفسك ، وعمَّرَ صدرك ، ومنحك تعظيم العوامِّ ، وصداقة الملوك ، وعرفت به شهرٍ ما لا تعرفه من أفواهِ الرجال في دهْرٍ ، مع السلامة من الغُرْمِ ، ومن كدِّ الطلب ، ومن الوقوفِ ببابِ المكتسب بالتعليم ، ومن الجلوس بين يدي مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاُ ، وأكرمُ منه عِرقاً ، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ، ومقارنة الأغنياء .
والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضَرِ ، ولا يعتلُّ بنومٍ ، ولا يعتريهِ كَلَلُ السهرِ ، وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرت إليه لم يخْفِرْك ، وإن قطعت عنه المادة لم يقطعْ عنك الفائِدةَ ، وإن عزلته لم يدعْ طاعتك ، وإن هبَّت ريحُ أعاديك لم ينقلبْ عليك ، ومتى كنت معه متعلِّقاً بسبب أو معتصماً بأدنى حبْل كان لك فيه غنىً من غيره ، ولم تضرَّك معه وحشةُ الوحدة إلى جليسِ السوءِ ، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلاَّ منْعُه لك من الجلوس على بابِك ، والنظرُ إلى المارة بك .
مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوق التي تلزم ، ومن فضولِ النظرِ ، ومن عادةِ الخوْضِ فيما لا يعنيك ، ومن ملابسةِ صغارِ الناسِ ، وحضورِ ألفاظهم الساقطة ، ومعانيهم الفاسدة ، وأخلاقِهم الرديئة ، وجهالاتهم المذمومة . لكان في ذلك السلامةُ ثم الغنيمةُ ، وإحرازُ الأصل مع استفادةِ الفرْعِ ، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المُنى ، وعن اعتياد الراحةِ وعن اللَّعبِ ، وكل ما أشبه اللعب ، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المِنَّةَ .
وقد علمنا أن أفضل ما يقطع به الفُرَّاغُ نهارهم ، وأصحاب الفكاهات ساعاتِ ليلهم : الكتابُ ، وهو الشيء الذي لا يُرى لهم فيه مع النيل أثر في ازدياد تجربة ولا عقل ولا مروءة ، ولا في صوْن عِرض ، ولا في إصلاح دينٍ ، ولا في تثمير مال ، ولا في رب صنيعةٍ ولا في ابتداءِ إنعامٍ .
وهذه أقوالٌ في فضل الكتاب
وقال أبو عبيدة : قال المهلَّب لبنيه في وصيته : يا بَنِيَّ ، لا تقوموا في الأسواق إلا على زرَّاد أو ورَّاق .
وحدّثني صديق لي قال : قرأتُ على شيخ شامي كتاباً فيه من مآثرِ غطفان ، فقال : ذهبتِ المكارم إلا من الكتب . وسمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول: غبرتُ أربعين عاماً ما قِلتُ ولا بتُ ولا اتكأتُ ، إلا والكتاب موضوع على صدري .
وقال ابن الجهم : إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم . وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة . تناولتُ كتاباً من كتب الحِكم ، فأجدُ اهتزازي للفوائد ، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة ، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة ، وعزُّ التبين أشدُّ إيقاظاً من نهيقِ الحميرِ ، وهدَّةِ الهَدْمِ .
وقال ابنُ الجهم : إذا استحسنتُ الكتاب واستجدتُه ، ورجوتُ منه الفائدة ، ورأيتُ ذلك فيه ، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظرُ كم بقي من ورقة مخافة استنفاده ، وانقطاع المادة من قلبه ، وإن كان المصحفُ عظيم الحجمِ كثير الورقِ كثير العددِ فقد تمَّ عيشي وكمل سروري .
شدوا عزائمكم وأعلو هممكم يا من تريدون صنع زمان العزة.