الحمد لله الذي قدر كل شيء فأحسن قدره، وابتلى الإنسان بما يسرّه وما يسوؤه ليحسن في الحالتين شكره وصبره، وجعل لعبده مما يكره أملاً فيما يحب، ومما يحب حذراً مما يكره، فسبحانه واهب النعم، ومقدر النِقم، له الحمد في الأولى والآخرة.
لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه، وكل نعيم زائل إلا جنته، وصلى الله على سيدنا محمد الذي أوذي في سبيل الله أبلغ إيذاء، فلم يزده ذلك إلا إيماناً ومضاءً، وعلى آله وصحبه الذين كانوا في السراء حامدين شاكرين، وفي الضراء خاضعين صابرين، وسلّم تسليماً كثيراً.
وبعد… فهذه خطرات بدأت تسجيلها وأنا في مستشفى المواساة بدمشق في شهر ذي القعدة من عام 1381 للهجرة الموافق لشهر نيسان (إبريل) من عام 1962 للميلاد, وكنت بدأت بتسجيلها لنفسي حين رأيتني في عزلة عن الأهل والولد، والتدريس والتأليف، وتلك هي عادتي في السجون والأمراض والأسفار.
غير أني فقدت كل ما دونته من قبل، فلما بدأت بتسجيل خواطري في هذه المرة، وكان يزورني بعض إخواني فيراني مكبّاً على الكتابة، أبدى عجبه من أمري، فقد أجمع كل الأطباء الذين يشرفون على علاجي في بلادنا وفي بلاد الغرب أن من الواجب أن أركن إلى الراحة التامة، فلا أقرأ ولا أكتب، ولا أشغل بالي بمشكلات الحياة وهمومها، حتى يقدر لي الشفاء من مرض كان سببه الأول – في رأيهم – إرهاق الأعصاب بما لا تتحمله.
وقد صبرت أعصابي على إرهاقي لها بضع عشر سنة حتى ناءت بحمل ما أحمّلها من هموم وأحزان، فكان منها أن أعلنت احتجاجها بإيقافي عن النشاط والعمل إيقافاً تامّا بضعة شهور، ثم استطعت من بعدها أن أعود إلى نشاطي الفكري في التدريس والتأليف برغم إلحاح الأطباء عليّ بترك ذلك، ولكني لم أستطع اتباع نصائحهم لظروف شتى لا قِبَل لي بدفعها، حتى إذا دخلت المستشفى أخيرا بعد إلحاح المرض عليّ واشتداد الآلام.
كان المفروض أن أقف مضطراً عن الكتابة، لولا أني وجدت نفسي مسوقاً إلى تسجيل خواطري التي لم يكن لي يد في إيقاف تواردها. وأقرب ما يكون الإنسان إلى التفكير، أبعد ما يكون عن الشواغل والمزعجات.
فلما رأى مني بعض أصدقائي ذلك، قرأت لهم بعض ما كتبت كالمعتذر عن مخالفة نصائح الأطباء، فاستحسنوه، وكان أمر بعضهم أن أخذ يتردد عليّ يوميّاً ليسمع ما استجد من خواطري.
ثم غادرت المستشفى فتابعت تسجيل هذه الخواطر في فترات متقطعة كانت تدفعني إليها مناسبات الأحداث. إلى أن تجمع لي منها قدر كافٍ رأيت من الخير الاستجابة إلى رغبات بعض إخواني في نشرها رجاء النفع والفائدة إن شاء الله.
- لقد دوّنت هذه الخواطر كما وردت، غير مرتبة ولا مبوبة، فقد كنت أرى المنظر فيوحي إليَّ بالخاطرة أو بأكثر فأدونها، ثم أرى منظراً آخر فأدوّن ما خطر لي تعليقاً عليه، وكنت أحياناً أتذكر ما مضى من حياتي مع الناس فأكتب ما استفدت من تجاربي معهم، وهكذا جاءت هذه الخواطر مختلطاً بعضها ببعض.
وقد يوحي إليّ الأمر الذي أود التعليق عليه بخواطر مسلسلة فأكتبها يردف بعضها بعضاً كما يرى القارئ في بعض المواضع. وأيّا ما كان فأنا أعرضها كما كتبتها دون أن أعيد النظر في ضم النظير إلى نظيره، والموضوع إلى شبيهه، لغرضين اثنين:
أولاً
أن تكون صورة صادقة عن تفكيري خلال بضعة شهور قضيتها منقطعاً عن الناس ما بين المستشفى والبيت.
ثانياً
أن يكون في انتقال الخواطر من موضوع إلى موضوع، ما يلذ للقارئ متابعتها، فقد تمل النفس من موضوع واحد يتتابع فيه الكلام على نسق واحد، ولكنها تنشط حين تنتقل من معنى إلى معنى، كما تنشط النفس حين تنتقل في الحديقة من زهرة إلى زهرة، ومن ثمرة إلى أخرى.
- إن هذه الخواطر هي خلاصة تجاربي في الحياة، لم أنقل شيئاً منها من كتاب، ولا استعنت فيها بآراء غيري من الناس، وأعتقد أن من حق الجيل الذي أتى بعدنا أن يطّلع على تجاربنا، وأن يستفيد من خبرتنا إذا وجد فيها ما يفيد، وهذا خير ما نقدمه له من هدية.
إننا لا نستطيع أن نملي عليه آراءنا إملاءً، وليس ذلك من حقنا، وإنما نستطيع أن نقدم له النصح والموعظة، وخير النصح ما أعطته الحياة نفسها، وأبلغ الموعظة ما اتصل بتجارب الحياة ذاتها، والناس وإن اختلفت مشاربهم وعقولهم وطباعهم، فإنهم يلتقون على كثير من حقائق الحياة، ويجتمعون على كثير من الرغبات والحاجات والأهداف.
وإني إنما أقدم هذه التجارب لمن عاش في مثل تفكيرنا وأهدافنا ومطامحنا ومقاييسنا، فهؤلاء الذين ينفعون بها، أما الذين يخالفوننا في العقيدة أو الاتجاه فقلّ أن يستفيدوا منها، ولا أعتقد أنهم يستطيعون الصبر على كثير مما جاء فيها من خواطر وأفكار، فمن أجل أولئك نشرت ما كتبت.
أما هؤلاء المخالفون لنا في الاتجاه والنظرة إلى حقائق الحياة ومشكلاتها، فكل ما أرجو أن يستمعوا إليه، وأن يقرأوه على أنه يمثل وجهة نظر في مشاكل مجتمعنا الذي نعيش فيه، ولا سبيل إلى إنصاف مخالفك في الرأي إلا أن تستمع إليه وترى ما عنده، فقد تجد فيما تسمع – إن كنت طالباً للحق – بعض الصواب الذي كنت تظنه خطأ، وبعض الحق الذي كنت تراه باطلاً، وقد مدح الله عباده المؤمنين ? الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه? .
- هذا وقد كانت خواطري التي أقدم أكثرها اليوم في هذا الكتاب ممزوجة بخواطر سياسية أوحت بها ظروفنا السياسية، فجردتها من هذه الخواطر الاجتماعية، رجاء أن يقرأ هذه من اختلف معنا في الاتجاه السياسي ومن وافقنا.
وأرجأت نشر تلك الخواطر السياسية إلى فرصة أخرى أرجو أن تكون الظروف فيها ملائمة لنشرها أكثر من ظروفنا الحاضرة، وأن تكون النفوس فيها مستعدة لقبول النقد والحكم لها أو عليها أكثر مما هي مستعدة اليوم. وبخاصة أنا في مرضي ولا أريد إثارة الخصومات السياسية في وقت أرى أن ظروف بلادنا لا تسمح بإثارتها، وأن حالتي المرضية لا تسمح لي بالدخول في نقاش أو جدل حول ما كتبته فيها.
وليس معنى هذا أن ما في هذا الكتاب لا يثير عليّ بعض الخصومات، ولكني أرى ما تثيره بعض خواطري في هذا الكتاب من خصومات، شيئاً أتقرب به إلى الله عز وجل، فالخصومات السياسية كثيراً ما يُثاب الإنسان عليها، أما الخصومات الفكرية – وبخاصة ما يتعلق منها بالدين والإصلاح الاجتماعي – فهي لا بد واقعة، والثواب فيها متوفر إن شاء الله لمن لم يبغِ في نقده إلا وجه الحق، وتخليص الناس من الأباطيل والأوهام.
- وأنا في هذه الخواطر لم أحاول الغموض في صياغتها، ولا التحدث عن المعاني التي تخطر في بال الفلاسفة، ويدّعيها بعض المتفلسفين، لقد كتبتها بأسلوب تفهمه العامة كما تفهمه الخاصة، وكنت فيها منساقاً مع طبيعتي التي تحب البساطة في كل شيء، وتكره التعقيد في أي شيء.
إنني لست في هذه الخواطر فيلسوفاً ولا حكيماً ولا مفكراً بعيد الغور في الوصول إلى الحقائق، ولكنني صاحب تجارب عملية في الحياة استغرقت من عمري أكثر من ربع قرن، وقد أحببت نقلها إلى من ينتفعون بما نكتب، ويتأثرون بخطانا فيما نفكر، وليس يهمني أن أبدو في نظرهم متفلسفاً، أو أديباً متأنفاً، وإنما يهمني أن أبدو لهم أخاً مرشداً ناصحاً يقول ما يفهمون، ولا يعنتهم في تدبر ما يقرأون.
على أني أعترف أن كثيراً من الخواطر المنثورة في هذا الكتاب تحتمل معانٍ كثيرة، وقد تحتاج إلى شرح يبين المقصود منها، وقد أبقيتها على ما هي عليه من الشمول لتحتمل كل ما تحتمله من معانٍ، وتركت للأخ القارئ أن يفهمها أو يفهم منها ما يشاء ما دام لفظها يحتمل فهمه ويدل عليه.
- وقد جاء في بعض الخواطر كلمات “منظومة” ولا أقول قصائد شعرية، فلست بالشاعر وليست عندي موهبة الشعر وسليقته، وإن كان لي ميل إليه، وبقراءته هوى، ولكنها خواطر “منظومة” جاءتني عفواً دون تعمّد، فتركت نفسي على سجيتها، تعبر عما تريد بالأسلوب الذي تريد، فهذا هو عذري فيما أثبته من “منظومات” لا تطرب الشعراء، ولا تهز أسماعهم.
وحسبي أني طربت لها حين جاءت على لساني هكذا، فخشيت إن أهملت إثباتها في هذه الخواطر، أن يضيع على القارئ بعض ما فيها من خواطر وجدانية، وانفعالات نفسية، فرأيت أن أشركه معي فيها على أن يعلم أنها ليست – في نظري – شعراً أعتدّ به، بل خواطر أرتاح إليها.
- وأحب أن أنبّه أيضاً على أنني فيما أوردت من خواطر تتناول فئات من الناس، لم أقصد أشخاصاً معينين، وإنما قصدت كل من اتصف بتلك الصفات، فالخواطر المتعلقة بهم خواطر نحو صفات معينة، لا أشخاص معينين، وأعوذ بالله من أن يكون في قلبي حقد نحو أحد، أو عندي رغبة في التشهير بإنسان مهما اختلفت معه في اتجاهه.
ولست أقول كما قال أبو الطيب المتنبي:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روَّى رمحه غير راحم
فلا هو مرحوم إذا ظفروا به ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولكني أقول: إن من بلغ من العمر ما بلغت (سبعاً وأربعين سنة) وأصابه من المرض ما أصابني (خمس سنين وبضعة شهور) وعرف الناس معرفتي بهم، يرى نفسه أكرم من أن يحمل حقداً أو عداوة شخصية يجري وراءها متقطع الأنفاس.
لقد هانت عليّ الدنيا بما فيها من اللذائذ، وما تحتويه من عوامل الحسد والحقد والكراهية، ولم يبقَ في نفسي – شهد الله – إلا رغبة في الخير أفعله وأدل عليه، وإعراض عن الشر أهجره وأحذر منه، أما الأشخاص فنحن كلنا زائلون.
ولن يبقى إلا ما ابتغي به وجه الله، أو قصد منه نفع الناس، وسيجزي الله كل إنسان على ما قدم من عمل، ونحن جميعاً – من ظالمين ومظلومين، ومتخاصمين ومتحابين – أحوج ما نكون حينئذ إلى عفو الله ورحمته ورضوانه.
إلى ديّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
- وبعد … فهذا ما أحببت أن أبينه للقارئ مما يعتلج في نفسي في نفسي من خواطر نحو هذه الخواطر، وإني لأرجو الله تبارك وتعالى أن ينتفع بها فيما أصبت فيه، وأن يغفر لي منها ما أخطأت فيه، وأن يجعل ثواب ذلك في عداد حسناتي يوم العرض عليه ? يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم?، ? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله?، والحمد لله رب العالمين.
من كتاب..هكذا علمتني الحياة