نحن في زمن التغيير والتطوير والتبديل والتفعيل، نعيد صياغة العالم من جديد، نُخل بموازين القوى لنعيد توازنها، نمسك بعجلة النمو جيدًا حتى ندفعها بقوة نحو التقدم والازدهار، نغير قواعد اللعبة الاقتصادية ونتمرد على النظريات المهترئة. نتحرر من المُسَلمات والمقدمات والمهدئات، ونركض نحو التدقيق والتحقيق والتطبيق.
في خضم هذه التغييرات التي نصنعها أو نفرضها هناك متغيرات أخرى تُـفرض علينا، فهل كل التغيير مقبول؟ وهل كل الجديد يعد تقدمًا؟ وهل كل تقدم يمكن أن يكون تطورًا مفيدًا؟
مع تطور التكنولوجيا وزيادة استخدام غرف المحادثات الإلكترونية، بدأ الشباب العربي يستخدم لغةً جديدةً وبديلةً عن حروف اللغة العربية، حيث تزاوجت الأخيرة مع الحروف اللاتينية لينتجا هجينًا جديدًا يعرف باسم “الفرانكو أراب” أو “العربيزية” أو “الإنجلوأراب”، والتي تمثل الكتابة الصوتية للغة العربية باستخدام الأبجدية اللاتينية.
تتضارب الآراء والتحليلات حول أسباب ظهور هذه اللغة الهجينة، فهناك من يُرجع الأسباب إلى تمرد الشباب على النظم الاجتماعية والثقافية، في دول تراقب كل ما يفعل أو يحاول أن يفعل – لتحصره في خانة المستهلك بعيدًا عن الابتكار والإنتاج – فلجأ إلى تشفير محادثاته باستخدام هذا الشكل الخاص من الكتابة ليعبر عما يريد برموز حرة تحيد عن الصحيح والفصيح والمنصوب والمرفوع والمقولب.
الجدير بالذكر أن فكرة تهجين اللغة ليست جديدة، فقد طُرحت من قبل في “تركيا” عام 1924، حين ألغى “مصطفى كمال أتاتورك” الخلافة العثمانية ومعها الكتابة بالحروف العربية واستبدلها بالحروف اللاتينية. وهو ما دعا إليه أيضًا الشاعر اللبناني “سعيد عقل” الذي توقع اندثار اللغة العربية لمصلحة اللهجات المحكية، حيث يختفي الحرف العربي ويحل محله الحرف اللاتيني كما حدث في “تركيا”. هذا وقد قدم السياسي المصري “عبد العزيز فهمي” لمجمع اللغة العربية اقتراحًا بكتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية! قد لا يعلم كثيرون تلك الحقائق، لكن بالتأكيد يدرك الجميع أن شبكات التواصل الإلكترونية قد ساهمت في انتشار هذا الهجين بشكل كبير.
ليس هذا وحسب، بل إن “مايكروسوفت” أطلقت موقعًا إلكترونيًا جديدًا يستهدف الناطقين بالعربية في أنحاء العالم، يتضمن أدوات مبتكرة منها “مترجم مارن” الذي يسمح لمستخدمي الإنترنت كتابة الحروف العربية باستخدام لوحة مفاتيح لاتينية، كما يقوم بترجمة “الفرانكو أراب” إلى مرادفاتها في اللغة العربية! فهل اعتُمد الهجين في قائمة اللغات؟!
كيف ينظر الوطن العربي بكُتّابه ومثقفيه ومعلميه إلى تقرير منظمة “اليونيسكو” الصادر عام 2008 والذي ضم اللغة العربية إلى قائمة اللغات المتوقع انقراضها؟ من حرك ساكنًا؟!
لم تشهد اللغة العربية مجافاةً أكثر مما تشهده في عصرنا هذا، ولم يتصدع جدار الثقافة العربية أكثر من هذا الصدع الذي خلق أزمة هوية يعجز مثقفونا عن حلها، فعلقوا خيبتهم على شماعة السرعة ورياح الانفتاح والتطور والتغيير، فأضاعوا لسان حالهم في زوبعة العولمة.
استطاع الهجين “فرانكو أراب” أن يعبر عن المعنى الحقيقي والملموس للغزو الثقافي، حيث يواجه طلابنا ومثقفونا ومدرسونا تشوهات وأخطاء فادحة في كتابة ونطق اللغة العربية الفصحى متأثرين باللغة الهجينة، كما يعمد مدراء الشركات والموظفون إلى إقصاء اللغة العربية وتبادل الرسائل الداخلية بإحلال الحروف اللاتينية محل العربية استثمارًا للوقت، أو هروبًا، وربما تحايلاً على القواعد، لمَ لا ونحن في زمن “التيك أواي”!
الاندماج مع العالم والتواصل معه لا يعني انتهاك قواعد اللغة، فوسائل التواصل متعددة ومتطورة، والتكامل الذي يجمع العالم بأسره في قرية صغيرة يتطلب أولاً أن يمر بفترات من التكافؤ الحقيقي تسودها توازنات اقتصادية، وعدالة اجتماعية، ونظم تعليمية تحث على الابتكار وتنبذ ثقافة التلقين، ومؤسسات بحثية متطورة، ومراكز صحية تعالج التشوهات بدلاً من أن تنتجها.