“لو هبتدى لازم أبدأ كبير” لماذا أسمع دائماً هذه المقولة من كثيرين يحلمون بمشاريعهم وشركاتهم الخاصة؟!،يملكون الأفكار الجديدة والممكنة التحقيق ولكنهم يفتقدون ولا يفهمون أهمية مبدأ “خطوة بخطوة” فى النجاح وليس أى نجاح إنه القائم على التجارب والفرحة بكل فوز على هذا الطريق الطويل.
فهذا كتاب اشتريته دون أن اقرأ الكثير عنه وحتى ما قرأته لم يكن كافياً فهو يتحدث عن شركة بريطانية لم أسمع أو اقرأ عنها قبل ذلك، لكن اشتريته ولم أندم على ذلك، الكتاب طبع على ورق أعيد استخدامه ومطبوع بحبر غير ضار بالبيئة، الورق سميك والكتاب ملون وفيه كثير من الصور، أتمنى لو أن معظم الكتب تطبع بنفس الأسلوب، كالعادة بقي الكتاب في المكتبة دون قراءة حتى رأيت شعار الشركة البريطانية في رفوف أحد المحلات.
شركة إنوسنت (Innocent) البريطانية متخصصة في صناعة العصائر الطبيعية أو بالأحرى صناعة ما يسمى سموثي (Smoothie)، ليس هناك شيء مميز حتى الآن، ما يميزهم أنهم بالفعل يستخدمون الفواكه لصنع العصائر دون إضافة أي نكهات أو مواد حافظة وهذا عكس ما تفعله كل الشركات الأخرى المنافسة التي تستخدم المواد الحافظة وتستخدم المنكهات وكذلك لا تستخدم الفواكه الطبيعية بل تستخرج مادة مركزة من الفواكه وهذا يؤثر على الطعم وعلى القيمة الغذائية للعصير.
إنوسينت بدأت كفكرة لثلاث شبان وهم مؤلفي الكتاب بالمناسبة، الثلاثة كانوا أصدقاء في الجامعة وكانوا يتعاونون في مشروع تجاري صغير، وبعد الجامعة التحق كل منهم بوظيفة منفصلة لكنهم لم يقطعوا علاقاتهم ببعضهم البعض وبقيت فكرة العمل في مشروع خاص حلماً يفكرون به كل يوم، اجتمع الثلاثة ليبحثوا عن فكرة لمشروع خاص وخرجوا بعدة أفكار لم تكن عملية ثم جائت فكرة العصير الطبيعي.
الخروج بفكرة لمشروع تجاري ليس أمراً صعباً، في البداية يجب أن تكون الفكرة واضحة في ذهنك ويمكنك أن تكتب عنها في ثلاث فقرات أو أقل أو تشرحها لصديق في 30 ثانية، هذه المقاييس ليست قوانين تفرض على الجميع لكنها وسيلة لقياس مدى وضوح الفكرة، لأن إن احتجت لكتابة تقرير طويل عن فكرتك أو احتجت لنصف ساعة لتشرحها لصديق ففي الغالب الفكرة ليست واضحة لديك أو أنها فكرة معقدة أكثر من اللازم، لتختبر بساطة الفكرة يقترح مؤلفو الكتاب بأن تجري اختبار الجدة، أي اشرح الفكرة لجدتك – أو ربما لأي شخص كبير في السن – وإن فهمها من أول مرة فالفكرة واضحة.
النقطة الثانية للحصول على فكرة جيدة هي أن ترى الفجوة بين حاجات الناس وما هو متوفر لهم وتحاول سد هذه الفجوة، مؤلفو الكتاب رأوا أنه لا يوجد خيار طبيعي 100% لمن يريد شراء العصير من المتاجر فكانت فكرتهم أن يسدوا هذه الفجوة، لم يكن مهماً أن ثلاثتهم ليس لديهم أدنى خبرة في صنع العصير أو توزيعه أو أي شيء آخر متعلق بالتصنيع أو إدارة الشركات! لكنهم وجدوا حاجة لم تلبى وقاموا بتلبيتها، فكرتهم ليست مختلفة فهي في النهاية عصير! لكن منتجهم أفضل من ناحية أن مكوناته طبيعية 100% ولم تستخدم المواد الحافظة أو الملونات.
لكن قبل أن يترك الثلاثة وظائفهم ويبدأوا شركتهم قرروا الاحتفاظ بوظائفهم لأطول مدة ممكنة وهم ينصحون الآخرين بفعل ذلك، في نفس الوقت كانوا يجربون فكرتهم بحجم صغير ليروا مدى نجاحها فإن لم تنجح تجاربهم الصغيرة يمكنهم البقاء في وظائفهم وإن نجحت فيمكنهم أن يبدأوا مشروعهم بجدية.
أول تجربة لهم أجروها في مهرجان محلي، تعرف الثلاثة على رجل كبير في السن يسمى جيف وهو مزارع مولع بالجزر! يخرج الجزر الناضج من أرض يزرعها ثم يسحب محصوله نحو مصنع على طرف مزرعته وهناك يتحول الجزر إلى عصير في علب صغيرة ويوصله جيف بنفسه إلى محلات في لندن، هذه العملية تستغرق 6 ساعات فقط، استغل الثلاثة خبرة جيف واستثمروا مبلغ 500 باوند لصنع 1000 عبوة عصير لبيعها في المهرجان.
في هذه المرحلة لم يكن لديهم اسم للشركة فاخترعوا اسماً مؤقتاً ووضوعه في الملصقات على عبوات العصير، لكن كيف سيعرف الثلاثة ما إذا كانت العصائر جيدة أم لا؟ كانت فكرتهم الأولى أن يضعوا ورقة استبيان فيها اسئلة متعددة لكنهم ألغوا الفكرة لأن الناس في مهرجان للترفيه ولن يكون لديهم اهتمام كافي بحل اسئلة تتطلب كثيراً من التفكير.
بدلاً من ذلك وضعوا استبياناً من سؤال واحد وعلى لافتة كبيرة كتبوا “هل علينا أن نترك وظائفنا لنصنع هذه العصائر؟” وأسفل اللافتة وضعوا سلتي مهملات، واحدة تحمل لافتة تقول “نعم” والثانية تقول “لا” ويمكن لمن جرب العصير أن يصوت بعلبة العصير … حقيقة فكرة رائعة … في نهاية المهرجان كان من الواضح أن معظم الناس أعجبتهم العصائر بدليل أن سلة “نعم” لم تعد كافية لاستقبال مزيد من علب العصير.
فكرة التجربة المصغرة قبل تنفيذ مشروع كبير تكررت في شركة إنوسينت مع محاولاتهم في التوسع نحو بلدان أخرى، فقبل دخولهم لأي بلد أوروبي يجربون عصائرهم على نطاق ضيق ثم يقررون الطريقة المناسبة لبيع منتجاتهم بحسب حجم السوق، تكرر الأمر مع مشروع خيري اقترحه أحد الموظفين حيث اقترح صنع قبعات صوفية صغيرة توضع على بعض علب العصير كإشارة أن جزء من مبلغ هذه العلبة سيذهب للأعمال الخيرية، بدأ الموظف بعدد صغير من القبعات – 3000 قبعة – تبرعن بخياطتهن مجموعة من النساء لكن المشروع توسع شيئاً فشيئاً حتى حصلت إنوسينت على أكثر من 500 ألف قبعة صوفية صغيرة!
فكرة التجارب الصغيرة بديهية بالنسبة لي لدرجة تجعلني أستغرب كيف يعارض البعض مثل هذه التجارب الصغيرة وصدقني رأيت عدداً لا بأس به من الناس يفعلون ذلك، رأيت من يقترح فكرة فأقترح أو يقترح غيري أن نجربها على نطاق ضيق فيخرج من يعترض على الفكرة بأكملها، فأرد ويرد غيري بأنه لا ضرر من تجربة صغيرة وندخل في نقاش ينتهي غالباً بتطبيق التجربة أو إلغاء الفكرة كلياً، هذه الدائرة تكررت أمامي عدة مرات حتى وصلت لقناعة أنني إن أصبحت مسؤولاً عن أي شيء وعلي إدارة مجموعة من الناس فأول واجب علي هو إسكات من يعترض على التجارب الصغيرة … إن كانت التجربة لن تكلف شيئاً أو لن تكلف سوى القليل فلا يوجد سبب لعدم تنفيذها.
يتحدث الكتاب بعد ذلك عن رحلة المؤسسين الثلاثة للبحث عن ممول وعن شريك يصنع لهم العصائر وقد واجهوا هنا الكثير من الإحباط، كل المصنعين قالوا لهم أن الفكرة لن تنجح، كل الممولين رددوا نفس الشيء ورفضوا تمويل فكرتهم، والثلاثة جربوا كل أنواع التمويل سواء الحكومي أو الخاص أو الشخصي وكادوا يعلنون يأسهم لولا وصولهم لمستثمر شخصي مغامر اسمه موريس، هذا المستثمر لديه أصدقاء يستثمرون معه في كل مشروع يشارك فيه.
وقد وضع موريس 50 ألف باوند من ماله الشخصي في مشروع إنوسينت مع وعد بأن يجمع باقي المبلغ – 200 ألف باوند – من أصدقائه، ولأول مرة يرفض أصدقائه المشاركة في هذا المشروع لأنهم يرونه فاشلاً من البداية، اضطر موريس لدفع باقي المبلغ من جيبه وقد كانت مغامرة كبيرة إلا أنها عادت عليه بعائد كبير وفرصة لإغاظة زملائه الذين ضيعوا الفرصة.
شركة إنوسينت لم تطور مصنعها الخاص بل تعاونت مع مصنع وكان هذا استثمار ناجح إذ أن معدات التصنيع تكلف الملايين وإنوسينت ليست شركة تصنيع وليس عليها أن تطور مصنعاً من الصفر، تبين فائدة الاعتماد على مصنع منفصل عندما غيرت الشركة عبوات العصير الكبيرة من البلاستيك إلى الورق المقوى – الكرتون – إذ أن عملية التبديل هذه ستكلفهم الملايين لو طوروا مصنعاً خاصاً بهم، لأنهم تعاقدوا مع مصنع خاص لديه مرونة استطاعوا توفير تكلفة كبيرة لا يمكنهم تحملها لوحدهم.
بعد ذلك يدخل الكتاب في تفاصيل كثيرة متعلقة بعالم الأعمال لكنها لا تدور حول المال والتمويل والإدارة والتصنيع بل الناس، شعار الشركة مثلاً له قصة طريفة إذ توجه الثلاثة إلى رسام وشرحوا له اسم الشركة وما يعنيه لهم وما يريدونه فأخذ قلماً سميكاً ورسم بسرعة صورة الوجه والهالة فوق رأسه وسألهم “مثل هذا؟” فوافقوا عليه، هذا شعارهم أنجز في أقل من دقيقة وهو شعار مميز.
ثلثي الكتاب يدوران حول ما يمكن تسميته بثقافة الشركة، شيء نفقده في كثير من شركاتنا، فمثلاً من ثقافة شركة إنوسينت أنهم يمزحون كثيراً حتى في علب العصير فيضعون مكونات للعصير لا يمكن أن تكون موجودة مثل “راهبات سمينات” وهذه جعلت مؤسسة حكومية ترسل لهم رسالة تقول فيها أن عليهم إزالة هذا المكون من قائمة المكونات لأنه يشوش على الزبائن، ردوا عليهم بأنه لا يوجد عاقل يصدق أن شركة إنوسينت وضعت راهبة في العصير، فردت المؤسسة الحكومية بأطرف رد: إما أن تضعوا الراهبات في العصير أو تزيلوا المكون من قائمة المكونات!
بيئة الشركة الداخلية مرحة، فالأرض لم تفرش بسجاد بل بشيء يشبه الحشائش التي تراها في ملاعب كرة القدم، هناك مكان متفوح كالمطعم ويمكن لأي موظف أن يلبس ما يريحه ويجلس عند أي طاولة ويعمل من هناك مع زملائه، هناك هاتف على شكل موزة يتصل به الزبائن ويرد عليه المدراء أو الموظفون وإن رن 3 مرات ولم يرد عليه أحد سترن كل هواتف الموظفين في المؤسسة!
الشركة تتواصل مع زبائنها بالوسائل الحديثة أيضاً:
نشرة بريدية.
مدونة
تويتر
فلكر
فايسبوك
يوتيوب
أعلم أن هناك كثير من المؤسسات في بلداننا تفعل نفس الشيء لكنني أجد أن كثير منها رسمي وجاف وغير عملي، يفترض بهذه الوسائل أن تكون شخصية مرحة وفيها شيء من الروح.
الكتاب يقدم خلاصة خبرات وتجارب أناس لديهم تجربة فعلية في إنشاء شركة صغيرة نمت وأصبحت شركة كبيرة، هذا الملخص لا يعطي الكتاب حقه، لذلك نصيحتي أن تشتريه أو تستعيره وتقرأه.
الكتاب: Innocent
المؤلفون: آدام بالون، رتشارد رييد، جون رايت
الصفحات: 208
دار النشر: Penguin Books