فواصل

الوقت وأهميته في تحقيق النجاح

إذا أمعنا التفكير والتأمل في الحياة الإنسانية، من العلاقات بين البشر، إلى التعاملات بين الأفراد أو المؤسسات أو الدول، فإن ما يلفت نظرنا في نهاية المطاف أن كل شيء يتعلق بعامل الوقت. إنه الزمن الذي يحكم جميع أوجه حياتنا، ويترك الأثر الحاسم على اختياراتنا، تماماً كما لو أننا في بورصة. ولكننا اخترنا مصطلح “الوقت” بدلاً من “الزمن” هنا، لأننا سنتوقف كثيراً عند حسن أو سوء التوقيت.

يقال على سبيل التندر من بعض الدبلوماسيين الغربيين الذين عملوا في الشرق الأوسط: “إن الناس يقودون سياراتهم بسرعة، ويضربون أبواقهم الزاعقة، ويشتمون الآخرين، كي يجلسوا في المقهى بعدها لساعات يلعبون النرد ويدخنون النارجيلة.” أما في شبه القارة الهندية ومعظم بلدان أفريقيا الوسطى، فغالبية الناس ليس لديهم كبير اعتبار للوقت، بحيث أن المواعيد مرنة، والتأخر سمة مقبولة ومتعارف عليها ضمناً في المجتمع. وأذكر أن مدير دورة في الإخراج التلفزيوني في BBC، نصحنا ببساطة قائلاً: “إذا كنتم تعملون في بلد من بلدان العالم الثالث، لا تضيعوا الوقت بالشجار مع العاملين معكم حول تأخرهم، فهذا سيكلفكم وقتاً مهدوراً أكبر دون فائدة. الأفضل أن تتقبلوا الأمر الواقع، وتتكيفوا معه، لأن في ذلك إنجازاً أفضل للعمل، وانسجاماً أكثر مع العاملين معكم.” ورغم أن النصيحة بدت غريبة على طبع الإنكليز، بل الغربيين عموماً، إلا أنني في حياتي المهنية العملية بعدئذٍ اكتشفت مدى صحتها. أما الشائع عندنا فهو التغني بالدقة الألمانية، أو السويسرية، أو الإنكليزية، أو دقة اسكندنافيا، وإن كانت في الدول الأوربية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط - مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا - أقل تمسكاً بالدقة بعض الشيء. ومما لا شك فيه أن هذه الدقة كانت سبباً رئيساً لنجاح اليابانيين والكوريين، ثم الصينيين والماليزيين والتايلانديين، في تحقيق التطور الاقتصادي الملموس. بغض النظر عن نظرة الأمم والشعوب المختلفة إلى عامل الوقت، وتعاملها معه، علينا أن نتذكر نحن العرب بفخر واعتزاز بعض أمثالنا الشعبية، التي لو التزمنا بها، وأحيينا جوهر معانيها، لعدنا إلى عداد الدول الرائدة في كل شيء. بعض هذه الأمثال “الوقت من ذهب،” والأروع منه: “الوقت كالسيف، إن لم تقطعه.. قطعك.”

نجد في الأدب العالمي كثيراً جداً من الذكر للوقت، وكذلك التأثر بعامل الوقت. في مسرحية وليم شكسبير “حكاية الشتاء” مثلاً حوار كامل عن الوقت، ولكنه لا يصب في صلب الفعل الدرامي للمسرحية بقدر ما يترك مجالاً عملياً للمسرحة، ولعله يوازي الفعل الدرامي بالتذكير بعامل الزمن الذي يغسل الأحقاد، وينمي بفعل الذكرى عنصر الندم أما في الرواية الحديثة، فيلعب الوقت دوراً محورياً مهماً، خاصة في مدرسة “تيار الوعي”. إن رواية جيمس جويس “يوليسيس” هي رواية يلعب فيها الوقت دور البطولة كذلك يمكن القول عن روايات فرجينيا وولف، والتي اقتبس عن شخصيتها فيلم بعنوان “الساعات” من بطولة ميريل ستريب ونيكول كيدمان وجوليان مور.

بالتأكيد، فإن السينما الحديثة، خاصة لدى انطلاقة مدرسة “الموجة الجديدة” في فرنسا على أيدي تروفو وشابرول ورينيه ولولوش وفاردا وروب-غرييه وغودار وسواهم، منذ أن بدأ التنظير لها عبر مجلة “دفاتر السينما”، اعتمدت اعتماداً كبيراً على الوقت. كان اللعب بالزمن، للأمام وللوراء، عبر تقنية “الفلاش- باك” أحد أهم وأبرز عناصر سينما “الموجة الجديدة”، التي امتد أثرها إلى السينما الأمريكية في هوليوود في حقبة الستينيات والسبعينيات، قبل أن تنحسر تقنية “الفلاش- باك” بسبب حرص المنتجين من أصحاب المال على إرضاء الجمهور العريض، وعدم إرهاقه بتركيز يبعث على التململ. والحقيقة عن فن المونتاج في السينما، ومن بعده في التلفزيون، هو أحد أهم العوامل المؤثرة في كل الأجناس، من الإثارة والتشويق إلى الكوميديا إلى التراجيديا إلى المغامرات. أما في المسرح، فلا شك أن الوقت يلعب الدور المحوري الأهم. يعرف جميع المؤدين، من ممثلين إلى إيمائيين إلى راقصين، إن أحد أكثر العناصر إسهاماً في إتقان أدائهم، وفي إحراز التأثير المطلوب على المتفرج، هو حسن التوقيت.

إن النكتة، وسواء كانت لفظية أم حركية، تحتاج إلى توقيت دقيق يحسب بالثواني. بل يلعب كثير من نجوم الكوميديا - من تشارلي تشابلن وبستر كيتون وهارولد لويد ولوريل وهاردي ونورمان ويزدم ولوي دو فونيس إلى عادل إمام ودريد لحام ومحمد صبحي وياسر العظمة – على عنصر التوقيت، بحيث أن كل صمت ونظرة والتفاتة تترك انطباعاً فورياً يثير القهقهة لدى الجمهور. ولو تأخرت المسألة ثانية واحدة، لنقص التأثير أو زال. لذلك، فهو أمرٌ بالغ الأهمية على خشبة المسرح، بينما تتحكم فيه في السينما عملية المونتاج. في كل أنواع الآداب والفنون الدرامية قاطبة،

يتفق المنظرون والممارسون على أهمية “الإيقاع” أو ما يسمى tempo/rhythm، لأنه العامل الذي يحقق الجذب الأولي، ودعم تلك الجاذبية في تصاعد باتجاه الخاتمة.

إذا فكرنا بشمولية أكبر، بعيداً عن عوالم الآداب والفنون، للاحظنا أن عامل الوقت له أهمية لا تجارى في كل أوجه الحياة الاجتماعية والإنسانية. مثلما يعتمد النجاح في التمثيل أو الإخراج على التوقيت السليم، فإن النجاح في مضاربات البورصة، والنجاح في المعارك الحربية، والنجاح في إدارة الأعمال، يعتمد بنسبة عالية جداً على عامل التوقيت الصحيح. إن أي تأخر في اتخاذ القرار قد يتسبب بضرر فادح، قد لا يمكن تعويضه أو تلافي نتائجه الكارثية.

من هنا، تأتي أهمية الخبرة في الإدارة، وفي اتخاذ القرار المناسب بسرعة وتلقائية. أما التردد والتأجيل والتلكؤ فكلها عوامل تتناقض مع التوقيت، أو تخل فيه، بحيث لا تحرز النتائج الطيبة نفسها، حتى ولو كان القرار المتخذ هو نفسه. في الوقت نفسه، فإن التسرع والارتجال في اتخاذ القرار قد يسبب أيضاً خسارة لا يمكن تعويضها، مما يؤدي إلى الندم على ما ضاع.

لذلك، يجب مراعاة عدم الإبطاء وعدم التعجل، بل أن يحسب حساب التوقيت السليم تماماً، والذي يشكل فارقاً حاسماً بين النجاح والفشل في أي اتفاق أو صفقة. تلك مسألة متعارف عليها في مختلف أنواع المفاوضات، وفي الاقتصاد والتجارة خاصة. لذا، فإن اللعب على عامل الزمن يتطلب مهارة قيادية من نوع استثنائي، تعتمد قبل كل شيء على اختيار طاقم جماعي يردف بعضه بعضاً بالنصح والمشورة، كي تستنزف الفرص، ولكن شريطة عدم إضاعة الفرصة السانحة.

مقالات ذات صلة

اضف رد